في عالَم فَقَد فيه الإنسان إنسانيّته، يخرج فيه الطّفل البريء ليعود إلى بيته مُغتصَباً أو محمولاً مُغطّىً بالدّماء.
في بشريّة تُقتَل فيها برصاص بارد ابتسامة أُناس خرجوا من بيتهم سعداء مُحتفِلين. في عالم يتحوّل فيه الإنسان إلى قطعةٍ من حديد بلا مشاعر يُسخَّر لقتل أخيه الإنسان دون رحمة، بحجّة الدّفاع عن الدِّين ... في هذا الكون الذي شوّهته يد الإنسان المُؤتمَنة عليه، أين نجد الثّقة؟؟!!! كيف أثق في غيري؟! وأنا طفلة امتلأ ذهنها واهتزّ جسدها من رائحة وصورة ذلك القريب الذي اغتصبها. وأنا مراهق تفرّغ على جسدي السّاكن ألَم أكثر النّاس قُرباً منّي. أنا فتاة فقدتُ قدميّ وشوّهتُ وجهي وأنا أقفز هرباً من سائق لم يتعلّم كيف يكبت غرائزه وكيف يكون إنساناً. كيف أثق وأنا طفلة رأت دم أبيها يتناثر على وجهها لأنّه ينادي بما يؤمن به؟ كيف أثق وأنا طفلة صغيرة انعزلت داخل نفسها لسنين طويلة، لأنّ صديقتها قد خانتها وأصبح كنز أسرارها سخرية الآخرين؟ كيف أثق وأنا... وأنا... وأنا. أنا قصة لا تنتهي ولا تكفيها أوراق العالم كي تخبرك آلامها، يكفي أن أخبرك أنني لا أثق بالآخرين وليس هناك في قلبي مكاناً للثّقة. إذاً كيف لا زلتُ على قيد الحياة؟؟!
لكنّ صوتاً يسخر منّي ويخبرني أنّني في كلّ يوم أفتح فيه عينيّ أقوم بفعل الثّقة ...!!! ما هذا؟ كلا أنا لا أثق بأحد ... كلا ...
بلى يا صديقي، ففي كلّ مرّة أشرب فيها الماء أثق أنّني لن أموت من سموم وضعها من يريد قتل البشريّة. في كلّ مرّة يبوِّق فيها الألم في جسدي وأذهب مسرعاً للطّبيب أستمع له وأنفِّذ نصائحه أقوم بفعل الثّقة هذا. في كلّ مرّة أركب سيّارة أو باص لا أعرف صاحبه ولا أدري إن كان سيوصلني إلى المكان الذي أقصده أقوم بفعل الثّقة. في كلّ مرّة أدخل فيها المحلات وأتعامل مع النّاس وأشتري وآكل وأتناول الأدوية و... أقوم بفعل الثّقة ... مئات الأفعال التي نقوم بها تخبرنا أنّنا نثق، ومئات القلوب المكسورة الحزينة الوحيدة تخبرنا أنّنا لا نثق.
إنّنا نثق كي نستطيع أن نعيش ولكنّنا لا نعيش الحياة الحقيقيّة التي نستحقّها، لأنّنا لا نستطيع أن نثق. هذه هي الحقيقة المؤلمة، أنّنا جميعاً نملك في أحشائنا تلك الثّقة التي تضمن بقاءنا على قيد الحياة ولكن في أحشاء معظمنا طفل، مراهق، راشد وكهل، مجروح لا يعرف كيف يرمي بنفسه على أيدٍ متشابكة مستعدّة أن تحمله. في أحشاء معظمنا ذكريات تمنعنا أن نفتح قلوبنا ونشارك عيوبنا ومشاعرنا وخبراتنا، وبالتّالي تمنعنا من التّغيير. على وجوه معظمنا قناع بلاستيكي جميل ندخل به إلى كلّ مكان كي نحمي أنفسنا من الخيانة والرّفض.
ما معنى الثّقة؟ وكيف أثق؟ وبمن أثق؟ وإلى أيّ مدى يجب أن أثق بالآخرين؟؟ هل سأبقى هكذا وأقضي حياتي مُقيَّداً لا أعرف معنى الثّقة والحريّة؟ سنين من الصّراعات والتّساؤلات والخبرات أوصلتني إلى أنّ الثّقة هي الفرصة الثّانية باستمرار. الثّقة ليست الغباء. ليست هي الاستسلام للإساءة وقبول الإهانة. الثّقة ليست السّماح للآخرين بكسر حدود حياتي واختراقها دون احترام. إنّها ليست الإنكار، لكنّها اختيار الفرصة الثّانية باستمرار.
إنّها اختيار اجتياز المجهول. إنّها قبول الخير والشّرّ في داخلي وداخل كلّ إنسان. إنّها قبولي لنفسي ولضعفي وإعطائي فرصة ثانية كما الحال مع الآخرين. الثّقة هي قرار السَّماح لقلبي أن يعرف الآخر وهو مدرك أنّ هناك جانب مظلم بداخله سيُضاء يوماً ما، لا أعلم ما نتيجته لكنّه أمر يستحقّ العناء. لا وجود للثّقة دون وجود للمجهول، ولا وجود للفرصة الثّانية دون ألم ضياع الفرصة الأولى. ولا معنى للحياة دون حريّة، ولا وجود للحريّة دون وجود الثّقة. لذا، سيبقى السّؤال هل سأثق؟ وإلى أيّ مدى سأثق في الآخرين؟ إنه اختيارك وقرارك.
بقلم / مرام طحان