منذ أمد طويل وإلى الآن لا يزال الصِّراع دائراً حول قضية وجود التّلفاز، هذا الصُّندوق الذي يفرض نفسه عليك في البيت آخذاً الكثير من وقتك، فاضحاً أموراً لا ترغب حتّى بالتّفكير فيها.
مع أنّه جهاز أصمّ قد يبدو في خارجه كأداة لا حول ولا قوّة لها، لكنّه في حقيقته مارِدٌ يعمل جاهداً على تدمير بيتك وعلاقاتك الأُسريّة. فهل بالفعل هذا الجهاز ضارٌّ ومُؤذي؟ وقد أصبح خطراً يهدِّد حياة المجتمع واستقراره؟ أم أنَّ ما فيه من مواد هي ما يمكن أن تكون مؤذية وضارّة؟! للإجابة عن هذا السّؤال انقسم العالم إلى أكثر من فريق، منهم من رأى التّلفاز على أنّه ابتكار عالي القيمة لا بل في قِمّة ما أبدعته الحضارة، لأَّنّه جعل من الكون قرية صغيرة يمكنك من خلاله رؤية ما يحدث قُربك أو بعيداً عنك في ثوانٍ عبر الأقمار الصّناعيّة، وبناءً على هذا فالتّلفاز جهاز لا يمكن الاستغناء عنه. فريق آخَر رأى فيه قِمّة في الخطورة، خاصّة إنْ كان لا يحتوي على أيّ بُعد أو جانب ديني. وإن وافق هذا الفريق على وجود التّلفاز، فالسّبب الوحيد الذي دعاه إلى ذلك هو متابعة البرامج الدِّينيّة فقط. وما يدعو للدّهشة في هذه الأيّام رغم تزايد الثّورة العلميّة والتّكنولوجيا، أنّنا لا زلنا نعاني من مشكلة تغييب العقل وقبول المُسلّمات دون نقاش، خصوصاً عندما يدخل الدِّين في الموضوع. لكن ما علينا الاستناد عليه في تقييمنا لأيّ أمر - خاصّة إن كان يتعلّق بالتّلفاز- هو، حُبّ الاطّلاع والعِلم والرّغبة في الفهم والمعرفة وتقييم مدى حاجتنا لإدراك ما يدور حولنا.
هل تساءلتَ يوماً عن الدّافع الذي يقودك إلى مشاهدة التّلفزيون، أم أنّك اعتدتَ على مشاهدته، كحدث روتيني تقوم به بشكل دوري؟ أحياناً كثيرة ومع مرور الوقت تتحوّل بعض عاداتنا إلى سلوكيّات إدمانيّة لا ننتبه إليها، فتُعيق أموراً حَسَنة كثيرة في حياتنا. لذا علينا أن نسأل أنفسنا قبل مشاهدة أيّ برنامج مهما كان شكله أو شكل المواضيع المُقدَّمة فيه، سواء كنّا مهتمّين بالأمور الدِّينيّة فقط أو العلميّة أَم الثّقافيّة، هل ما يدفعنا إلى المشاهدة هو البحث وتحفيز الذِّهن على التّفكير؟ فإنَّ توقُّفنا عند حدّ المشاهدة دون التّفكير في المادّة التي نراها، يحوِّلنا إلى مُستهلكين سلبيّين تصبح أذهاننا أواني تستقبل ما تراه وتسمعه من خلال الشّاشة الصّغيرة. على سبيل المثال يُقدّم التّلفزيون برامج عن الصّحّة والطّب، فيتبنّاها المُشاهِد وكأنَّها طبيبه الشّخصي. أو يُقدّم لنا مواداً علميّة قد تدفعنا إلى القيام بتصرُّفات معيّنة مع المحيطين بنا، ناهيك طبعاً عن المواد الدِّينيّة التي تكاد تسلُب عقل المُشاهِد، فيسير وراء ما يسمعه دون دراسة أو فحص. ولا ننسى الكَمّ الهائل من الإعلانات التي قد تدفع المشاهد إلى شراء ما لا يحتاجه، أو إلى الانهيار تحت شعور العجز لعدم قدرته على نَيل ما يتمنّاه. بالإضافة للمواد الاجتماعيّة - من خلال الأفلام والمسلسلات - التي تنقل للمُشاهِد قِيَماً خاطئة إلى جانب القِيَم الصّحيحة. وعلى هذا ما الذي علينا فعله؟ وهل نقبل بأن نكون مجرّد مُتلقِّين لا حول لنا ولا قوّة؟ هل نرضى بأن يتعلّم أبناؤنا قِيَماً مُشوّهة؟ أَ نوافق على إدخال العُنف إلى بيوتنا؟ ماذا عن القنوات الإباحيّة؟ وفي مقابلها قنوات التّطرُّف الدِّيني التي تبثّ صُوَراً عن الجرائم اللاإنسانيّة، وعن نَحر الرِّقاب بفخر، وعن الغَزوات والفتوحات التي تجري في بلاد ما بين الرّافدين وأفغانستان وغيرها. إنْ قُلنا بأنَّ المشكلة تكمُن في ضعف المُشاهِد تجاه القنوات التي تبثّ هذه المواد، نكون قد برّأنا أنفسنا ورفعنا عن كاهلنا عبء تحمُّل المسؤوليّة. أَ مِن المعقول ألّا يكون لدى من يستقبل كلّ تلك المواد المؤذية رأياً في ما يراه؟ أقلّ وأضعف الإيمان أن يُغلِق جهازه ويرفض أن يتابع ما لا يوافقه. إذن، المشكلة لا تكمن في ضعف المشاهد الذي لا حول له ولا قوّة ولا قدرة على نبذ ورفض ما يراه، بل تكمن في كَسَل المُشاهِد وحُبّه للبرامج الجاهزة والمُعلَّبة. في عِشقه لأخذ معلومة لا تُكلِّفه شيئاً بل بالأحرى تصل إليه بأقلّ جهد. إنّها معلومة "التيك أواي"، مثل الوجبات السّريعة التي نشتريها ونحن في سيّاراتنا على زوايا الشّوارع وعند إشارات المرور. أيّ شيء نراه والسّلام، برنامج خفيف الدّم وقصير الوقت فيه موسيقى لطيفة وكلمات عذبة ومذيعة جميلة. وهكذا نبتلع الطُّعم اللطيف ونأخذ السُّم في العسل ونتعلّم قِيَماً فارغة، ونبتعد عن الأصالة والحضارة الحقيقيّة وتختلط قِيَمنا العُليا بقِيَم الشّارع، فنتغنّى حُبّاً بالحمار والعنب والحشيش. نتبنّى العُنف والقتل والضّرب، ونتعلّم بعض المكائد والحِيَل والخِدَع والأكاذيب من أبطال المسلسلات ومن الحَمَوات والكَنّات.
أَلست معي في أنّنا فقط ولا أحد غيرنا مسؤولين عمّا نستقبله من التّلفزيون، وليس من التّلفزيون فقط، لا بل ومن أيّ مصدر آخَر حتّى وإن كان دردشة صباحيّة مع جارنا أو حديث مسائي مع زوجاتنا؟ تعال لنجلس أمام الشّاشة الصّغيرة متوقِّعين هطول المعلومات الجيّدة والجميلة والمفيدة والبنّاءة علينا، وماذا بعد، قد لا نجد شيئاً فتخيب آمالنا. ولكن، هل نقف عند حدّ الأسف والخيبة؟ أم أنَّ مشاهدتنا غير المُوفّقة تدعونا إلى تحفيز أفكارنا والبحث في ما شاهدناه والخَوض في نقاش صغير مع أنفسنا، مجيبين من خلاله على السّؤال التّالي: هل يستحقّ هذا البرنامج أخذه بعين الاعتبار أم لا؟ هل عليَّ تبنّي الفكر الذي قُدِّم فيه أم لا؟ تعال معي لنبتعد عن السّلبيّة. ألّا نكون مجرّد أناس مُستهلكين نستقبل ما نراه ونسمعه، غير مسؤولين عمّا يتراكم في أذهاننا من أفكار ومعلومات، نهدر الوقت الثّمين والطّويل لنشاهد ما يُمليه علينا غيرنا. مُتخصِّصون في المشورة ينصحون المتزوِّجين حديثاً بألّا يقتنوا تلفزيوناً إلّا بعد سنة على الأقلّ من زواجهم. ليس لأنَّ التّلفزيون شرّ، بل لأنّ السّنة الأولى على الأقلّ من الزّواج تحتاج إلى تركيز أكثر ووقت أطول لتأسيس الحياة الزّوجيّة، ثمّ فيما بعد لا بدّ أن يبقى حاضراً لذهن الأُسرة أنّ الوقت الشّخصي في التّواصل أهمّ من الوقت الاستهلاكي أمام التّلفزيون. أَ لا توافقني في أنَّ الكثير من الأُسَر مفكّكة بسبب عدم إمكانيّة خلق حوار بينهم، حيث تضيِّع العائلة ساعات طويلة من سهرات جميلة وراء التّلفزيون بدلاً من أن تقضيها في صنع تلاحُم عائلي وتواصُل أُسري.
قد نرى الصّورة أوضح عندما نترك أطفالنا أمام التّلفاز لساعات دون توجيه. فالطّفل غير قادر على تحديد أولويّاته واختيار الأفضل له. نترك أطفالنا، فنَراهُم يتبنّون أفكاراً غريبة لم نعلِّمهم إيّاها، ثم نتساءل من أين أتوا بها؟ نراهم يطالبوننا بشراء ألعاب وسِلَع لم نسمع بها من قبل، فنكتشف بأنّ أذهانهم تشبّعت بالإعلانات التّجارية المخيفة التي تتخلّل برامج الأطفال. فهل تلوم التّلفزيون ومن يقدّم هذه البرامج؟ قد تفعل ذلك، لكن سامحني أنت وأنا المسؤولين الأوّلين عمّا يشاهده أطفالنا. ينصح المتخصّصون في تربية الأطفال بألّا يشاهد الطّفل التّلفزيون أكثر من ساعتين في اليوم كحدّ أقصى، بالإضافة إلى وجود الأهل كرُقَباء على ما يشاهده الطّفل. هذا إلى جانب لَعب دور أهمّ، وهو مساعدة أطفالنا على التّفكير بما شاهدوه واختيار البرامج التي تُحفّز تفكيرهم بدلاً من تلك التي تُثبِّت فيهم شخصيّة المُتلقّي السّلبي. نحتاج لتدريب ذواتنا صغاراً كنّا أم كباراً على امتلاك القدرة على الاختيار الجيّد، كي نمنح كلّ الأمور في حياتنا أوقاتها الخاصّة. نحتاج أن نتعلّم متى نشاهد التّلفزيون، وأن نُحسِن اختيار ما نتلقّاه من قِيَم ومعلومات، نفحصها ونميّز ما يمكن قبوله منها وما يجب رفضه.
مقال لوائل حداد
++++
اقرأ عن: كيفيّة تهذيب وتأديب الأطفال
استمع إلى برنامج إذاعي حول: التّلفاز